من خلال قراءاتى للأفكار والمذاهب , ومن خلال مناقشاتى لأتباع المذاهب المختلفة سواء الدينية أو الإلحادية , وجدت أن أول مشكلة تواجه النقاش هى مشكلة المصطلحات , فعلى سبيل المثال النزاع بين الملحد والمؤمن حول ( العدل الإلهى ) , فيستميت الملحد لإثبات ( الظلم الإهى ) ويستميت المؤمن فى إثبات ( العدل الإلهى ) فهذا يقول ترك الأطفال يموتون ليس من العدل والآخر يبدأ بجدال عقيم محاولاً إثبات ( العدل الإلهى ).
والمشكلة كلها أنهم لم يتفقوا على تعريف للفظ ( العدل ) , فلو اتفقوا على تعريف ثابت للعدل يمكن حينها بكل بساطة إثبات أو نفى الظلم عن الإله.
وكذلك الحال بالنسبة لمصطلحات مثل الحكمة والكمال والمطلق وهذه العبارات المطاطة التى يستخدمها الجميع محاولاً إلصاقها أو نفيها عن الإله , دون أن يتفقوا بداية على تعريف لهذا الكمال أو لهذه الحكمة.
ولكى اتجنب الدخول فى هذه الدوامة , سأستغنى عن كل ما يمكننى من مصطلحات , وما أضطر إلى إستخدامه سأقوم بتعريفه بحيث أبين ما اقصد من هذا اللفظ.
فكلمة العقل مثلاً كلمة مطاطة , يستخدمها البعض للدلالة على المخ المادى الذى بداخل الجمجمة , والبعض الآخر يعتبره آلة غير مادية بواسطتها يتم التفكير , وآخرون يعتبرون أن العقل هو مجموعة من العلوم , وغيرها من الإستخدامات , فيبدأوا بنقاش حاد حول العقل وقدرته ومحدوديته , وهم لم يتفقوا بعد على التعريف.
لذلك فعندما قلت أننى أستخدم المنهج العقلى والأحكام العقلية قلت أن ما اسميه بالمنهج العقلى هو مجموعة من القواعد والأحكام التى أقيس بها مدى صحة الإدعاء والتى تكسبنى يقيناً يماثل اليقين بصحة حكمى بإستحالة إجتماع النقيضين , وقلت أن هذه الأحكام إنما ترتكز أساساً على ما أسميه بالبدهيات.
وعرفت البدهيات فقلت انها الأحكام التى أصدقها بمجرد تصورها , ولا يستدل عليها , وتكون قطعية ويقينية , ثم سقت عدداً من الأمثلة لأبين مقصودى.
بالتالى فانا لم أدخل فى هذه الدوامة حول هل هذا الحكم هو حكم عقلانى ومنطقى أم لا ؟؟؟ لأن السائل قد يسمى القوانين الفيزيائية أحكام منطقية , وقد يسمى المألوف هو العقلانى والمنطقى , ومن الممكن أن يطلق هذا اللفظ على أى معنى , فمجرد أن يسألنى هذا السؤال سأرد عليه وأقول , وفقاً لتعريفى للعقلانى والمنطقى , يكون هذا الحكم عقلانى , ووفقاً لتعريفك لا يكون عقلانى , بهذا نقطع شوطاً كبيراً فى النقاش , ويكون النقاش فى مواطن الخلاف الفعلية , فالخلاف فى المصطلحات مرده الأبحاث اللغوية لا الأبحاث العقائدية.
إذاًَ , من ينفى ان يكون الكذب مثلاً لا يجوز على الذات الإلهية بحجة أن الكذب ينافى ( الحكمة ) وينافى ( الكمال ) , عليه اولاً أن يعرف لنا ما المقصود بالحكمة , وما المقصود بالكمال , وعليه ثانياً أن يبين أن الحكمة والكمال ثابتين لله , ويبين ثالثاً أن الكذب ينافى الحكمة والكمال , فبالتالى يستطيع نفى الكذب عن الله , أما أن لا نتفق على المصطلحات ثم نحاول الإستدلال والنقاش , فهو عبث لا يصح ونقاش لا يثمر.
وهذا بالنسبة لأول مشكلة وهى مشكلة المصطلحات , أما بالنسبة لمسألة تفكيك القضايا , فهى خطأ يقع فيه الكثيرون , فمثلاً تجد ملحداً يتوهم فى نفسه الزكاء والفطنة , فيقول ( هل يستطيع الله خلق صخرة يعجز عن حملها ؟ ) فيبدأ بالإستدلال فيقول إن كان نعم فهو عاجز وغير كامل وبالتالى لا يمكن أن يكون اله , وإن كان لا فهو ايضاً عاجز وينافى الكمال وبالتالى لا يمكن أن يكون اله.
وبغض النظر عن المشكلة الأولى وهى أنه لم يعرف المصطلحات التى يستخدمها من كمال وعجز واله , ولم يبين وجه الدلالة على وجوب إتصاف الـ ( إله ) بـ ( الكمال ) و ( القدرة المطلقة ) , ولم يبين وجه الدلالة على ان عدم خلق هذه الصخرة تنافى ما أثبته , وبغض النظر عن أن سؤاله اصلاً فاسد ولا معنى له ( إذ أن سؤاله بصيغة أخرى هل يقدر الله على أن يكون عاجزاً ؟ ), بغض النظر عن ذلك فهو وقع فى خطأ ثالث:
وهو أنه أخذ مجموعة من المفاهيم وتعامل معها كوحدة واحدة , إن بطل مفهوم واحد بطلت القضية بالكامل , فهو وضع ( الخير ) و ( الكمال ) و ( القدرة المطلقة ) و ( العلم المطلق ) و ( الحكمة ) و ( العدل ) وغيرها من المفاهيم فى سلة واحدة , وأخذ يطعن فى جزئية من هذه الجزئيات ( ولتكن العدل ) فأثبت ان الإله غير عادل , ومادام غير عادل فهو غير موجود , ولم يناقش كل جزئية على انفراد حتى يخرج بنتيجة سليمة , هل هو موجود أم ليس موجود , فلم يضع فى باله إحتمال وجود إله ( ظالم ) أو وجود إله ( محدود القدرة ) أو وجود إله ( شرير ) ويبدأ بالنقاش , بل أخذ جزئية واحدة , ونقدها نقد غير سليم فأعلن عدم وجود إله , وهو هنا لا يفعل شيئاً سوى إظهار جهله أمام الآخرين , ومثل هذا يكون أكبر عقاب له هو تركه فى جهله.
ومثال آخر هو مسألة قدم مادة العالم ووجود الإله , فالجميع يعتبر أن قدم مادة العالم تنافى وجود اله , والحقيقة أنهما قضيتان لا قضية واحدة , فوجود الإله لا يستلزم الخلق من العدم , فيمكن أن تكون مادة العالم قديمة ولكن الإله قام بتركيبها وتحريكها , ومن الممكن ايضاً أن يكون أوجد المادة من العدم ثم قام برتكيبها وتجميعها , إذاً يجب النظر إلى مسألة قدم مادة العالم ووجود الإله على أنها قضيتان لا قضية واحدة , فيبحث فى وجود الله , ويبحث فى قدم مادة العالم , وأعنى بقدم المادة أن المادة أزلية ولكنها ساكنة غير متغيرة , ثم قام الإله بتركيبها وتغييرها , ولا أعنى أن المادة متغيرة منذ الأزل بمعزل عن الإله فهو أمر محال.
فأول أمر يجب فعله عند النقاش هو الإتفاق على التعريف بالمصطلحات , فيجب أن يتفق الطرفان على إستخدام لفظ معين لمعنى معين , ثم يبدأوا بالنقاش مستخدمين اللفظ بالمعنى المتفق عليه , لا أن يفعلوا مثل ما نجده مثلاً بين الأشاعرة والمعتزلة فى الخلاف حول هل هذا الأمر من العدل أم لا , فمن المفترض أن يكون البحث معكوس , فيتفقوا على تعريف للفظ ( العدل ) ثم يبدأوا بعد ذلك فى إختبار الأمور هل هى من العدل أم لا.
وثانى أمر يجب فعله عند النقاش هو تفكيك القضايا محل الخلاف إلى قضايا أبسط يتم مناقشة كل قضية على انفراد , فمسألة وجود الله وفق المفهوم الإسلامى مثلاً ( أنه قديم وباق وواحد وغنى ومخالفته للحوادث وأنه حى وعليم ومريد وقدير وأن علمه لا متناهى ومتعلق بكل شئ وأنه قدير على كل ممكن عقلى , وأنه عادل وحكيم وأرسل الرسل والأنبياء وأنزل القرآن وسيحاسب الناس ..........الخ من هذه الصفات ) ليست قضية واحدة , بل يجب تناول كل صفة من صفاته بمعزل عن البقية فى النقاش , وايضاً فى نفس الصفة , فمثلاً عند الإتفاق على ثبوت العلم لله , يبقى مسألة هل هو يجهل أم أن علمه أزلى , أم أن علمه سابق وليس بأزلى , فهنا يجب تبسيط المسائل ولا تؤخذ كوحدة واحدة ( إما أن تأخذه كله أو تتركه كله ).
بهذا يمكن أن يكون هناك أمل للإتفاق , وإلا فالمتحاوران يؤذنان فى مالطا.
وأعتذر عن الإطالة.